بورقيبة- إرثٌ يُعيقُ تونس أم ضرورة للنهضة؟

المؤلف: صالح عطية08.29.2025
بورقيبة- إرثٌ يُعيقُ تونس أم ضرورة للنهضة؟

في السنوات الأخيرة، ازدحمت الساحة السياسية والفكرية والإعلامية التونسية بإصدارات غزيرة تتناول شخصية الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. اتخذت معظم هذه الكتابات طابع الدفاع المستميت عن "الزعيم"، و"المجاهد الأكبر"، و"باني الدولة الوطنية" كما يحلو للبعض تسميته. في المقابل، انبرت قلة قليلة لكتابات اتسمت بالجرأة في النقد العميق، بل والحاد في بعض الأحيان، لشخصيته وفترة حكمه.

لم تكن هذه الكتابات منعزلة بتاتًا عن التحولات العميقة التي شهدها المشهد السياسي التونسي، ولا عن موازين القوى المتغيرة فيه. بل كانت، في جوهرها، ردة فعل على ما جرى في تونس منذ ثورة عام 2011، وعلى التحولات السوسيولوجية والسياسية والهيكلية التي عصفت بالبلاد خلال السنوات الأربع عشرة الماضية، والتي عجزت "القوى القديمة" و"الدولة العميقة" عن استيعابها وهضمها.

فقد عجزت هذه القوى عن فهم واستيعاب الحراك الاجتماعي والسياسي والتشريعي الجديد الذي بدأ يطال جوهر "الدولة الوطنية"، بل بدأ يقوض "الإرث البورقيبي" الذي اعتقد أنصاره أنه جزء لا يتجزأ من الدولة وفكرها وقوانينها وتقاليدها، وحتى علاقاتها الخارجية.

ورفض هؤلاء بشدة هذا التحول الجذري الذي أحدثته ثورة يناير/كانون الثاني 2011، نحو بناء دولة تعاقدية جديدة، تحل محل "دولة الغلبة" التي أسسها بورقيبة، والتي صورها أتباعه على أنها "نموذج" يحتذى به، وتبنوا "مشروعه المجتمعي" كما يحلو لهم تسميته.

"إبداعات" في تمجيد بورقيبة

الحقيقة المرة هي أن الثقافة التونسية، والحراك السياسي التونسي، بل والدولة التونسية نفسها، ظلت على مدى سبعين عامًا تقريبًا، أي منذ عام 1956، وهو تاريخ ما يعرف بـ "استقلال تونس"، أسيرة لفكر بورقيبة وسياساته، ورهينة لنخبة سياسية وجامعية وإعلامية، وقسم كبير من المثقفين الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن بورقيبة، بل كانوا المحامين البارعين في جعله "الرقم الصعب" الذي لا يمكن تجاوزه أو إسقاطه من أي حسابات أو تحولات أو تطورات شهدها المجتمع التونسي على مر العقود الماضية.

حتى وزراء بورقيبة الذين أذلهم وطردهم في كثير من الأحيان، كتبوا عنه بإسهاب، مثل الطاهر بلخوجة (وزير الداخلية الذي يلقب بـ "الطاهر بوب"، باعتباره المؤسس لفرق التدخل البوليسية التي أصبحت جزءًا من آلة القمع في الدولة على مدى أكثر من ستين عامًا). ففي كتابه "بورقيبة: سيرة زعيم"، أعاد بلخوجة إنتاج فكر بورقيبة وأسلوبه في الحكم، وكأنه لم يكن يومًا من ضحاياه!

الرئيس الأسبق الباجي قايد السبسي، الذي شغل منصبي وزير الداخلية والخارجية في عهد بورقيبة، لم يتردد هو الآخر في تدوين مذكراته بعنوان "الحبيب بورقيبة: المهم والأهم"، والتي لم تكن سوى إشادة جديدة بفترة حكم بورقيبة وفكره ومشروعه.

ولم يتوان وزير الثقافة الأسبق، الشاذلي القليبي، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، في إعادة كتابة سيرة بورقيبة في مذكراته "أضواء من الذاكرة"، والتي لم تتضمن أي نقد للزعيم، بل كانت مجرد سرد باهت لسيرة رئيسه الذي رقاه إلى منصب وزير، ورفعه إلى منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية.

لم تتوقف الأمور عند هذه "الإبداعات" التي خطها وزراء بورقيبة عن رئيسهم، بل الأدهى من ذلك أن بورقيبة ظل حاضرًا بقوة في جميع التحولات السياسية التي عرفتها البلاد.

فقد استُدعي "الزعيم" بعد سنوات قليلة من انقلاب الوزير الأول بن علي عليه عام 1987، وكتب الكثيرون عن "استبداد بورقيبة الرحيم"، مقارنة ببطش بن علي الذي فتك بالمشهد السياسي، وبرمزية بورقيبة وسجله الحافل، وتركه يموت في منفاه الاختياري بمدينة المنستير (200 كيلومتر عن العاصمة تونس)، مع تعليمات صارمة بتنظيم جنازة "عادية" يرفض بن علي أن يحضرها كبار الشخصيات في العالم.

المثير للدهشة أن الأصوات التي ستخرج لاحقًا للدفاع عن بورقيبة، التزمت الصمت المطبق عندما كان من المفترض أن تتكلم وتصدح بآرائها.

أطروحات قديمة متجددة

بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وصعود الإسلاميين والعلمانيين المعتدلين، الذين انتقدوا بورقيبة، إلى السلطة، استُدعي بورقيبة مجددًا، وبقوة، بل بنوع من "الهستيريا السياسية"، في سياق معارضة "مشروع الثورة"، الذي بدا لهم بمثابة قطيعة شبه نهائية مع بورقيبة.

وهكذا، تحركت شخصيات ووزراء سابقون ومثقفون محسوبون على اليسار الراديكالي و"الديمقراطي"، ونقابيون وإعلاميون ورجال أعمال، بدعم "خافت" من الدولة العميقة، لإعادة طرح "المدونة البورقيبية" من جديد، تحت عناوين الثورة المضادة، التي لم تقبل بتغيير "مورفولوجيا الحكم" في تونس، وصعود "خصوم الدولة" تاريخيًا، إلى السلطة وقيادة "دولة بورقيبة!".

اللافت، وربما من المفارقات العجيبة، أن يكون من بين قادة "حراك" الثورة المضادة هذا، شخصيات يسارية وقومية، صارعوا بورقيبة، وانتقدوه بشدة، بل كانوا من ضحايا سياساته القمعية، حيث زج بهم بورقيبة ذاته في السجون لسنوات طويلة، وتم نفي عدد كبير منهم إلى الصحراء التونسية (معتقل رجيم معتوق في أقصى جنوب البلاد)، واضطر الكثير منهم للهجرة القسرية خارج البلاد لسنوات عديدة، قبل أن تحتضنهم "ماكينة بن علي"، فتدخلهم ضمن الحزب الجديد ــ القديم (التجمع الدستوري الديمقراطي)، ومن هناك وصلوا إلى مناصب المسؤولية في الدولة.

استعاد هؤلاء، بدعم خارجي لا غبار عليه، إرث بورقيبة، وما يسمونه "مشروع بورقيبة"، وبدأوا يعيدون إنتاج مقولات "الدولة الوطنية" التي باتت مهددة في تقديرهم، و"المشروع المجتمعي" للزعيم، و"دولة الحداثة"، و"العلمانية البورقيبية"، في مواجهة الحكام الجدد الذين جاءت بهم صناديق الاقتراع، ولم يصعدوا إلى السلطة بانقلاب عسكري.

عمل هؤلاء على الترويج لجملة من المقولات، أهمها:

  • ضرورة استعادة الدولة الوطنية التي أسسها بورقيبة، لأن الدولة الجديدة باتت ذات توجه ديني، ما دام أن أغلبية التحالف الحاكم من الإسلاميين.
  • أن لهذه الدولة تقاليد راسخة على مستوى العلاقات الخارجية، لا يمكن التخلي عنها بسهولة، لصالح علاقات جديدة تفرضها المعطيات الجيوبوليتيكية المتغيرة. فتركيا وقطر والصين وروسيا وليبيا الجديدة (ما بعد القذافي) ومصر الثورة واليمن الجديد (بديلًا عن "اليمن السعيد")، كلها خارج السياق البورقيبي التقليدي، وبالتالي دخلت هذه التحالفات الجديدة منطقة الاستهداف من قبل هؤلاء، سياسيًا وإعلاميًا، بل ومن داخل مؤسسات الدولة ذاتها.
  • أن الدولة الوطنية، بمفهومها البورقيبي، دولة علمانية أقرب إلى اليسار، بمفهومه الأيديولوجي، وبالتالي فهي خصم لدود لليمين، المتمثل في الإسلاميين، وعليه ينبغي استئناف المعركة السياسية والأمنية والثقافية ضد الحكام الجدد، ليس من زاوية المشاريع والتداول السلمي على السلطة عبر الصندوق، ولكن على أساس إلغاء واستئصال هذا التيار، حتى وإن كان ذلك على حساب ثورة شعب بأكمله، ولا تهم الآليات في هذا السياق.

لذلك كان أول من ساند وانحاز لـ "انقلاب 25 يوليو/تموز 2021" الذي قاده الرئيس الحالي قيس سعيد، بدعم من الدولة العميقة، هم أولئك البورقيبيون الذين وصفوه بـ "الحركة التصحيحية"، وأسموه "المسار الجديد"، بل اعتبروه نوعًا من "استعادة الثورة التونسية".

  • عملوا على "دمقرطة البورقيبية"، فروجوا لفكرة أن دولة بورقيبة كانت منحازة للمجتمع، ولم يكن ينقصها سوى قدر ضئيل من الديمقراطية والحريات، ولكنها في كل الأحوال ليست الديمقراطية التي تسمح بوصول الإسلاميين والمعتدلين العلمانيين إلى سدة الحكم، فهذا خط أحمر، لأنه "ملكية للبورقيبيين" لا جدال فيها، وفقًا لتقديرهم.

سقوط الخطاب اليساري "الفرانكفوني"

لا يشك المنصفون للتاريخ التونسي في أن هذه المقاربة اليسارية الفرانكفونية البالية لم تكن سوى أداة من أدوات المافيات القديمة والجديدة، المتدثرة بشعارات براقة، والمتكئة على النفوذ الفرنسي المهيمن على المقدرات التونسية.

فبمجرد تفكيك مقولات "البورقيبية"، يتضح للمرء زيف خطاب اليسار التونسي "المفرنس".

  • فبورقيبة لم يبنِ دولة بالمفهوم المعاصر للدولة، فلا مؤسسات قوية ولا تشريعات جديدة (جل التشريعات إما من عهد البايات أو من مخرجات القوانين الفرنسية) ولا قضاء مستقل.
  • لم يؤسس بورقيبة حكمه على أساس ديمقراطي (انتخابات وتداول سلمي على السلطة) والاحتكام لمحكمة دستورية تفصل في النزاعات السياسية بشكل مستقل، وتمثل دعامة لعدم تغول الدولة والنظام. لقد أسس بورقيبة الدولة على أساس "الغلبة"، واستغلال دوره في "التحرير" و"البناء" لمنع أي محاولة لشراكة معه في الحكم. اجتماعيًا كان الرجل يلقب نفسه بـ "أبي التونسيين"، وسياسيًا كان يوصف بـ "جلاد التونسيين".
  • بل إن الدولة الاجتماعية التي يتم الترويج لها كدليل على "فرادة" بورقيبة وعبقريته، لم تكن سوى دولة هشة، لم تخلف سوى الفقر والخصاصة والبطالة المتفشية في أوساط اجتماعية واسعة، أدت إلى احتقان اجتماعي مكثف منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي (صراع السلطة مع اتحاد العمال عام 1978، وثورة الخبز عام 1984، والصراع مع الإسلاميين عام 1987)، وقد واجهها بورقيبة ونظامه بالقمع والسجون والمنافي والمعتقلات وتكميم الأفواه، بل كان ذلك من بين المرتكزات الأساسية التي استند إليها بن علي في انقلابه عام 1987.
  • إن دولة بورقيبة لم تكن – على رأي أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعة التونسية، الدكتور خالد المنوبي – إلا "مشروعًا كولونياليًا جديدًا، تحكمت فرنسا في تفاصيله وأخطبوطه"، مما جعلها "تقبض" على رقبة تونس منذ خمسينيات القرن المنقضي، وفق ما ورد في كتابه الهام: "قرن من الانهيار السياسي في تونس".

من هنا، فالعودة إلى بورقيبة هي في نهاية المطاف ترسيخ للمشروع الكولونيالي الفرنسي، ومنع لأي محاولة لتجاوز هذا الأفق السياسي والأمني والاقتصادي الفاشل.

دوافع جوهرية

لكن السؤال المحوري الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: ما الذي يدفع النخب التونسية، الليبرالية واليسارية منها على وجه الخصوص، إلى الاحتماء ببورقيبة في كل مسعى تونسي لبناء نظام ديمقراطي وسياسي وثقافي جديد؟

في رأينا، ثمة أسباب جوهرية تجعل العودة إلى "الزعيم" أسهل بكثير من أي عملية بناء جديدة. ويمكن تلخيص هذه الأسباب في النقاط التالية:

  • عدم اكتمال مشروع الإسلاميين، بما يكفي لتقديم إجابات شافية للتساؤلات الملحة المطروحة في الأوساط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في قضايا ومشكلات عديدة ومتشعبة.
  • عدم تجدد النخبة التونسية بالقدر المطلوب، خاصة بعد الثورة التونسية، حيث ظلت الأسماء التي دخلت الحكم تدور في فلك الدولة العميقة، التي كانت تتحكم بذكاء ودهاء واضحين، ولعل ذلك ينسحب حتى على بلدان الربيع العربي جميعها.
  • أن التوافقات التي حاولت النخب الجديدة بناءها لم تستند إلى مؤسسات قوية ولا إلى مشروع واقعي، بل ظلت محصورة في بعض القيادات السياسية الفاعلة، وعندما رحلت أو زج ببعضها في السجون، انهارت تلك التوافقات وتلاشت.
  • أن "الثوريين" لم ينجحوا في إيجاد بنية ثقافية وإعلامية جديدة، في مواجهة البنية القديمة، التي سرعان ما وجدت الأجواء والمناخات مواتية لاستعادة دورها الإعلامي والثقافي والسياسي، مستحضرة سياسات "دولة الغلبة" البورقيبية تارة، وسياسات "الدولة الأمنية" لبن علي تارة أخرى.
  • أن الصراع الخفي في تونس كان بين هذه النخب الجديدة الحاكمة والدولة العميقة، التي رفضت إدخال الثورة إلى مفاصل الدولة، وعملت على إقامة "جدار صد" قوي ضد أي محاولة لتسلل منطق الثورة وثقافتها ومرتكزاتها إلى داخل الدولة.
  • أن ترسانة القوانين والتشريعات التي تسيّر الدولة منذ أكثر من ستين عامًا، لم تتغير بالشكل الجذري المطلوب، على الرغم من بعض "الإنجازات" التي تحققت إبان الثورة، وهذه التشريعات لا تعيق أي محاولة بناء فحسب، بل تشد إلى الخلف بقوة، وقد وجد فيها "انقلاب 25 يوليو/تموز" مادة أساسية لسحق خصومه.
  • الدور المؤثر للخارج، الذي كان بمثابة "الإدارة الخفية" المعارضة لأي عملية "فك ارتباط" مع الإرث الكولونيالي بمضمونه السياسي وخلفيته الاقتصادية والثقافية.

إن تونس اليوم تواجه مأزقًا تاريخيًا حقيقيًا، بعيدًا عن مجريات السياسة اليومية، وجوهر هذا المأزق هو "الإرث البورقيبي" بالذات، الذي ما يزال يلعب دورًا محوريًا في تشكيل "الواقع اليومي والآني".

ويقيننا أن المطلوب اليوم من النخب التونسية الديمقراطية هو إحداث "قطيعة إبستمولوجية" (كما يسميها المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري) تامة مع بورقيبة ونهجه وثقافته وأعوانه ومريديه، بعيدًا عن خطاب "التوافقات المغشوشة" التي يدعو إليها البعض اليوم، جاعلين من البورقيبيين "المزيفين" - على حد وصف المفكر الفرنسي باسكال بونيفاس - جزءًا من الترتيبات القادمة وحوارات المستقبل وتحالفاته.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة